بسم الله الرحمن الرحيم
يتمنى الكثير منا أن يبدأ صفحة جديدة مع الله تعالى ، يكون قوامها الطاعة ، و الامتثال لأوامر الله تعالى ، وأن تكون تلك الصفحة فارغة من كل ما يغضب الرب تعالى .
هذه أمنية للكثير من الناس ... أحلام يسعون لتحقيقها ... وهدف يطمح المؤمنون الصادقون لنيله .
وفي رمضان .. تأتينا العطايا الإلهية .. والمنح الربانية .. والنفحات الإيمانية .. نتزود فيه من دنيانا لآخرتنا .. نسمو بنفوسنا .. ونرتقي بإيماننا .. ونقبل على ربنا عز وجل .. ونتلقى العرض الرباني .. والفرصة المتكررة في كل رمضان ... فرصة لأن نحيا حياة لا مجال فيها للمعاصي .
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَ نَادَى مُنَادٍ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ " رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين .
قال أبو الوليد الباجي: «يحتمل أن يكون هذا اللفظ على ظاهره ، فيكون ذلك علامة على بركة الشهـر وما يرجى للعامل فيه من الخير» .
وقال ابن العربي: «وإنما تفتح أبواب الجنة ليعظم الرجاء، ويكثر العمل ، وتتعلق به الهمم ، ويتشوق إليها الصابر، وتغلـق أبواب النار لتجزى الشياطين، وتقل المعاصي ، ويصد بالحسنات في وجوه السيئات فتذهب سبيل النار».
و قال بدر الدين الحنفي « صفدت الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات وصفدت بمعنى سلسلت فإن قلت قد تقع الشرور والمعاصي في رمضان كثيرا فلو سلسلت لم يقع شيء من ذلك قلت هذا في حق الصائمين الذين حافظوا على شروط الصوم وراعوا آدابه وقيل المسلسل بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما تقدم في بعض الروايات والمقصود تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره وقيل لا يلزم من تسلسلهم وتصفيدهم كلهم أن لا تقع شرور ولا معصية لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية » .
الفرصة أمامكفماذا يمنعك الآن من ترك المعاصي ؟!
أما آن الأوان لتفتح صفحة جديدة مع ربك ؟!
صفحة بيضاء لا يكتب فيها إلا الطاعة ، و لا تطوى إلا على خير !
قَال الحَافِظُ ابنُ رَجَبٍ رحمه اللهُ: "وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ المُؤمِنُ بِفَتحِ أَبوَابِ الجِنَانِ؟! وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ المُذنِبُ بِغَلقِ أَبوَابِ النِّيرَانِ؟! وَكَيفَ لا يُبَشَّرُ العَاقِلُ بِوَقتٍ يُغَلُّ فِيهِ الشَّيطَانُ؟! وَمِن أَينَ يُشبِهُ هَذَا الزَّمَانَ زَمَانٌ؟!".
والأمر كما أوْصَى أحَدُ السَّلَفِ ابنَهُ فقالَ: "يابُنَيَّ، جَدِّدِ السفينةَ فإنَّ البحرَ عميقٌ، وأكْثرِ الزَّادَ فإنَّ السَّفَرَ بعيدٌ، وأحْسِنِ العَمَلَ فإنَّ الناقِدَ بصيرٌ". إننا في حاجة في شأننا مع رمضان إلى عزمة بداية، وإلى عزمة نهاية، يوضح هذه العزمات ابن رجب -رحمه الله- فيقول: "العزم نوعان:
أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق، وهو من البدايات.
والثاني: العزم على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل، إلى حال أكمل منه، وهو من النهايات " .
هي فعلا فرصة جديدة لك ، بأن تفتح صفحة جديدة مع المولى تبارك وتعالى ، فرصة لو اغتمنتها لغنمت الكثير ، و لزاد رصيدك عند المولى جلا وعلا .
كم من أصحاب القبور الآن يندم على أنه لم يستفد من تلك الفرص الإيمانية ؟!
وكم منهم من يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيغتنمها ؟ !
أما قرأت قول الله تبارك وتعالى : " حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ " [ سورة المؤمنون من الآيتين 99 ، 100 ] .
حتى تنعم بالسعادةفهنيئا لك أخي القارئ – إذا اغتنمت تلك الفرصة – أن تحيا حياتك بدون معاص ، و أن تكون صحيفتك يوم أن تلقى الله تعالى بلا ذنب يذكر ، و أن تكون ممن وجبت لهم الجنة ، و أعتق الله رقبته من النار .
ولكن احذر أن تعود بعد ذلك إلى المعاصي والذنوب ، و أن تهتك محارم علام الغيوب .
داوم على طاعتك .. و حافظ على صلتك بالله تعالى ، حتى تبلغ المقام الذي تأمله ، والمنزل الذي تريده في جنة عرضها السماوات والأرض . ولتظهر تذللك لله .. ولتبكي بين يديه ..
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة --- فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يدعوك إلاّ محسن --- فمن الذي يرجو ويدعو المجرم
أدعوك ربّي كما أمرت تضرّعاً --- فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلاّ الرجا --- وجميل عفوك ثمّ إنّي مسلم
" كان بعض النجارين يبيع الخشب وكان عنده قطعة آبنوس ملقاة تحت الخشب فاشتريت منه فدخل دار الملك بعد مدة فإذا بها قد جعلت سريراً للملك فوقف متعجباً وقال: لقد كنت لا أعبأ بهذه فكيف وصلت إلى هذا المقام ?! فهتف به لسان المفهم نائباً عنها: كم صبرت على ضرب الفوس ونشر المناشير? حتى بلغت هذا المقام !! " المدهش لابن الجوزي ص 521 " .
السفر بعيد ويحتاج إلى زاد
إذا أراد الإنسان منا أن يسافر من مكان إلى آخر ، حتى ولو مدة قصيرة ، فإنه يعد زاده ، ويحضر حاله ، و يهيئ نفسه ، فما بالنا إذا كان السفر بعيد ، أليس من الواجب على صاحب كل عقل أن يعد له زادا يتناسب مع مشقة الطريق ، وطول الرحلة ؟!
هكذا أخي القارئ هو سفرنا من الدنيا إلى الآخرة ، يحتاج منا إلى كل عمل صالح ، وخالص لوجه الله تعالى ، ليكون لنا زاد في رحلتنا وسفرنا إلى المولى تبارك وتعالى .
كانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق طويل بعيد وزاد قليل ، وقوافل الصالحين قد سارت ونحن قد بقينا :
يا نائــم الليل كــم ترقد --- قم ياحبيبي قد دنا الموعد
وخذ من اللـيل وأوقــاته --- وِرداً إذا ما هجـع الرُّقَّدُ
من نـام حتى ينقـضي ليله --- لـم يبلغ المنزل أو يَجْهد
قل لذوي الألباب أهل التقى ---- قنطر العرضِ لكم مَوعِدُ
الواجب العملي :خذ ورقة وقلماً، اكتب ما تريد تحقيقه في رمضان، تعوَّد التخطيط لأعمالك، ولتكن أهدافك واضحة، وواقعية، ومرتبطة بزمن، فإن القاعدة تقول: "إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل"، لابد أن يكون لك أثر، لا يكفي أن تفيد نفسك، بل لابد أن يكون لك أثر فيمن حولك أيضاً، يقول الرافعي -رحمه الله- في وحي القلم: "إذا لم تزد شيئاً على الدنيا، كنت أنت زائداً على الدنيا " .
رمضان ... فرصتك للحياة بدون معاصٍ