كرة القدم خليط من الرياضة والسياسة .. والشعوب تنتقم لكرامتها بالأهداف والهتاف
ما الذي يفرق بين السياسة وكرة القدم؟ إنه خيط رفيع مثل ذلك الذي يفصل بين الإبداع والحمق، أو تلك اللحظة القصيرة الفاصلة بين انصراف الليل وانبلاج الصبح.
حين التقى المنتخبان المغربي والإسباني سنة 1965 لم تكن هناك الكثير من المشاكل. لو التقيا اليوم فستمتلئ المدرجات بالهجرة السرية والحشيش والسمك وجزيرة ليلى وسبتة ومليلية والجزر الجعفرية والصحراء وجزر الخالدات والمياه الإقليمية وتفجيرات 11 مارس (اذار) والحرب الأهلية ومحاكم التفتيش وسقوط غرناطة والغازات الكيماوية في منطقة الريف ومعركة الموؤودة، بحيث لن يصبح في الملعب أي مكان فارغ، وربما سيضطر المنظمون إلى إضافة مدرجات خشبية مؤقتة.
في المباريات بين المغرب والجزائر تقفز السياسة وتجلس في المنصة الشرفية ويبقى على لاعبي البلدين التقرير في شيء واحد: إما أن الصحراء مغربية في حال انتصار المغاربة، أو أنها عكس ذلك في حال انتصار الجزائر، أو يبقى الحل في يد الأمم المتحدة في حال نهاية المباراة بالتعادل. لكن التعادلات الكثيرة أو الانتصارات الخفيفة المتبادلة للجانبين تبقي الوضع على ما هو عليه في انتظار نصر كاسح لأحد الطرفين في إطار حل يبدو أنه تأخر كثيرا.
عندما لعب فريق الرجاء البيضاوي المغربي ضد ريال مدريد الإسباني في كأس أندية القارات بالبرازيل قبل سنوات وكان على وشك الفوز، بكى الكثير من الإسبان، وقال مذيع إسباني على أمواج الإذاعة الوطنية، «إن إسبانيين اتصلوا وهم يبكون عبر الهاتف، وقالوا كيف يمكن لريال مدريد أن يسمح لفريق مغربي بتمريغ كرامة الإسبان في التراب».
وحين لعب الوداد البيضاوي ضد مرسيليا الفرنسي بداية هذا العام في الدار البيضاء بصق الحارس بارتيث على الحكم المغربي عبد الله العشيري وأشبعه شتائم لأن الفريق الفرنسي كان منهزما، وركل اللاعبون الفرنسيون اللاعبين المغاربة، ورد بعض المغاربة الأشاوس بلكمات محترمة، وانتهت المباراة قبل وقتها مع أنها ودية لا غير. لكن لا ودّ تكنه فرنسا لمستعمراتها السابقة التي عليها أن تنهزم فقط حتى في كرة القدم. لذلك اعتذر مسؤولو الوداد لفريق مرسيليا واستدعوهم لعشاء فاخر في وقت لم يجف وجه الحكم المغربي من بصاق بارتيث.
في مباراة ودية بين إنجلترا وإسبانيا في مدريد هتف الجمهور: «جبل طارق لإسبانيا»، وتوترت أعصاب اللاعبين والجمهور ودافع اللاعبون الإنجليز عن إنجليزية جبل طارق، بينما دافع الإسبان عن إسبانيته، وانتهت المباراة بالتعادل كما تنتهي المفاوضات السياسية غالبا بين الطرفين. في مباراة بين برشلونة وريال مدريد رفع الجمهور الكاتالاني لافتة عملاقة بالإنجليزية وسط الملعب تقول «كاتالونيا ليست إسبانيا»، ودافع لاعبو برشلونة عن استقلال كاتالونيا بينما حاول لاعبو مدريد الدفاع عن وحدة إسبانيا، وانتهت المباراة بثلاثة أهداف لصفر لصالح برشلونة، أي انتصار استقلال كاتالونيا. لكن المباراة التالية انتهت بانتصار ريال مدريد بأربعة اهداف يعني أن إقليم كاتالونيا لن يستقل قريبا.
في المباريات بين التشيلي وبوليفيا يرفع الجمهور البوليفي لافتات تطالب بحق بلاده بالتوفر على منفذ على البحر، بينما يستميت اللاعبون التشيليون في إبقاء بوليفيا من دون بحر، وغالبا ما تنتهي المباريات بإيقاء البوليفيين بين الجبال في انتظار زمن آخر يستعيدون فيه «حقهم» في استرجاع أراضيهم الشاطئية التي «نهبتها» التشيلي في الأيام الغابرة وفي حروب خاطفة.
في المباريات بين اسكوتلندا وإنجلترا يرفع الاسكوتلنديون شعارات حرب الاستقلال ويستعيدون وجه البطل «والاس» الذي مرغ كرامة الجيش الإمبراطوري في التراب قبل أن يموت على المشنقة كرجل حقيقي.
في مباراة نادرة بين إيران والولايات المتحدة لم يرفع الجمهور شعارات كثيرة، بل ظل مشدوها أمام «حرب بين إيران والشيطان الأكبر» انتهت بهزيمة منتظرة للشيطان، وتعانق اللاعبون في النهاية.
في مباريات قطر والبحرين تحضر قضية جزر صغيرة جدا، وفي مباريات إيران والإمارات يطالب الإماراتيون باستعادة «الأخوات طنب»، الصغرى والكبرى وما بينهما. وفي مباريات سورية ولبنان يطالب لبنانيون بخروج القوات السورية ويطالب جزء آخر من الجمهور نفسه ببقائها. بينما يطالب الجمهور السوري لاعبيه بتسجيل أهداف كثيرة تنتقم لكرامة القوات السورية المنسحبة من لبنان، ويدافعون عن أنفسهم من تهمة مقتل رفيق الحريري.
الجمهور الصيني يشتم كثيرا المنتخب الياباني ويذكره بالمذابح التي قام بها اليابانيون حين غزوا الصين. لكن اليابانيين مازالوا ينتصرون في كرة القدم، ومازالوا قادرين على إغاظة الصينيين وجعلهم يبلعون ذكرياتهم المرة عوض إلقائها على اللاعبين.
جنرالات نيجيريا يقتسمون اللاعبين كما يقتسمون الدبابات. وبينما يكون اللاعبون في الملعب فإن الجنرالات يتصارعون بينهم في الثكنات حول نفوذهم الكروي في المنتخب. وحين يكون اللاعبون المسلمون في المنتخب أكثر عددا يصبح مسلمو نيجيريا أكثر قوة واعتدادا بالنفس، وعندما يتفوق اللاعبون المسيحيون يحس مسيحيو نيجيريا بالشيء نفسه.
في مباريات كثيرة لكرة القدم يتدخل السياسيون لفرض أسماء اللاعبين وتحذير المدرب من الخسارة لأن الهزيمة تعني هزيمة سياسية وليست رياضية.
في أيام الحرب الباردة كان المنتخب السوفياتي يلعب بفاعلية كبيرة لكنه يجد أمامه دائما حكاما «إمبرياليين» يخرجونه منذ الدور الأول. ومع ذلك يطأطئ اللاعبون السوفيات رؤوسهم ويخرجون من المنافسات. فكأس العالم اختراع رأسمالي ولم يكتشفها ماركس أو إنجلز.
فرنسا مازالت تلعب ضد ألمانيا بكثير من عقد الحرب العالمية الثانية. مازال الفرنسيون ينظرون إلى الألمان على أنهم ذلك الجنس المتعجرف في كل شيء، ويتذكرون طبعا كيف وصلت الدبابات الألمانية إلى قلب باريس في ظرف 24 ساعة. فحين يلتقي الفرنسيون والألمان على ملاعب الكرة يتذكر الألمان كيف اقتحموا باريس يوما في ساعات معدودة ومرت دباباتهم تحت قوس النصر. بينما يتذكر الفرنسيون نابليون وحروبه في كل أرجاء أوروبا. وهكذا تصبح مباريات الفريقين مباريات البحث عن مجد ضائع.
فيما مضى كان العراقيون يلعبون مع الكويت بامتعاض، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي رفض فيه المنتخب العراقي منازلة المنتخب الكويتي في نهائيات منافسة إقليمية بحجة أنه «نزال بين الإخوة لا يرضاه العراقيون لأنفسهم». بعد ذلك بوقت قصير اكتسحت القوات العراقية الكويت وفهم الناس أن العراق رفض فقط اللعب «مع المحافظة 19» من محافظاته الكثيرة.
الخليجيون يلعبون ضد بعضهم البعض وكأنهم يلعبون مباريات حياة أو موت. كل بلد يحاول أن يعطي الإنطباع أنه الأقوى. إنهم مثل أبناء حارة واحدة يتساوون في أشياء كثيرة. ويبقى لهم أن يحسموا في شأن القوة على ملاعب كرة القدم. حين لعب المنتخب الجزائري مع المنتخب الفرنسي مباراة ودية قبل بضع سنوات في باريس نزل الجمهور الجزائري إلى الملعب وأوقف المباراة التي كانت فرنسا تتقدم فيها بأربعة أهداف. الكرامة الجزائرية لا تحتمل. ثورة المليون ونصف المليون شهيد لا تقبل الهزيمة أمام المستعمر السابق. بعد ذلك شهدت شوارع باريس ومرسيليا ومدن أخرى اضطرابات احتجاجا على هزيمة لم تكتمل. المهم أن الجمهور الجزائري منع الهزيمة من دخول التاريخ رسميا.
بعد مباريات كثيرة كان السياسيون في العالم الثالث يؤدبون اللاعبين بعد الخسارة عبر ضربهم بالعصا على أرجلهم، وهو عمل لم يكن يقوم به فقط قصي أو عدي صدام حسين. هناك آخرون لم يتم اكتشافهم لأن أميركا لم تغز بلدانهم.
السياسيون يستقبلون منتخباتهم المنتصرة وهم يلبسون أقمصة عليها رقم 10 كأنهم مهاجمون حقيقيون، ويجلسون مع اللاعبين لأخذ صور تذكارية. كرة القدم ليست سوى لعبة من لعب السياسة.